الطريق الذي صنعني

 


تعريف قبل البداية✓

لم أكن أبحث عن سيارة فقط.
كنت أبحث عن نقطة تحوّل.
عن شيءٍ يجعلني أشعر أني تجاوزت مرحلة من حياتي، أني لم أعد أعيش على الهامش، أني أستطيع أن أتحرك بقوتي لا بانتظار الآخرين.

في البداية، كانت السيارة مجرد فكرة تمرّ سريعًا في رأسي كل صباح وأنا أركض خلف الحافلة، أتنفس غبار الطريق، وأتمنى أن أصل في الوقت المناسب.
لكن مع الأيام، صارت الفكرة تكبر.
كبرت لأنّ التعب كان أكبر منها.


✦ البداية: حين يصبح التعب هو الدافع

الحياة اليومية كانت تسير برتابة متعبة.
العمل بعيد، الزحام لا يرحم، والوقت يتبخّر بين الوقوف والانتظار والركض.
لم يكن أحد يفهم حجم ما أشعر به، لأنّ التعب الذي يتكرر لا يراه إلا صاحبه.
كنت أصل إلى مكتبي بوجهٍ متعب وقلبٍ مشغول، وكأنني أبدأ اليوم وأنا منهك سلفًا.

كنت أقول لنفسي:

"سأشتري سيارة يومًا ما... سأقود في طريقي الخاص."

لكنّ الحلم كان يبدو بعيدًا، مثل نجمٍ تعرف مكانه، ولا يمكنك الوصول إليه.


✦ : بداية الطريق

في إحدى الليالي، وأنا أجلس في غرفتي أراجع ميزانيتي المتعبة، أدركت أنني لو انتظرت الظروف المثالية فلن أتحرك أبدًا.
لم يكن عندي مال كافٍ، ولا وقت كافٍ، ولا دعم كافٍ.
لكن ما كان عندي هو الإصرار، والرغبة في أن أثبت لنفسي أني قادر على أكثر مما أظن.

قررت أن أبدأ.
بدأت أدخر من راتبي القليل، أتنازل عن الكماليات، أؤجل الأشياء التي لا ضرورة لها.
في البداية بدا الأمر مستحيلاً، لكن بعد أشهر قليلة، بدأت الأرقام الصغيرة تصنع فرقًا حقيقيًا.

لم أعد أخرج كثيرًا، لم أشتري ما لا أحتاج، أصبحت أتعامل مع المال باحترامٍ لم أكن أعرفه من قبل.
كان كل درهم أضعه في صندوق الادخار يعني لي خطوة أقرب نحو الحلم.


✦ : الطريق لا يحب الكسالى

لم يكن الطريق سهلًا أبدًا.
أحيانًا كنت أشعر أنني أقاتل وحدي.
الآخرون كانوا يضحكون، بعضهم قال بسخرية:

"كل هذا الجهد عشان سيارة؟ الناس تشتريها في يوم، وأنت تخطط لها سنة!"

كنت أبتسم بصمت.
لم يكونوا يفهمون أن الأمر لم يكن عن السيارة فقط، بل عن المبدأ.
كنت أريد أن أشتريها بعرق جبيني، دون قروض، دون أن أستدين من أحد.
كنت أريد أن أقول يومًا: “كل هذا بجهدي وحدي.”

أحيانًا كنت أنهار.
أجلس في الليل وأقول لنفسي: “هل الأمر يستحق كل هذا؟”
لكن كل مرة كنت أقرر أن أواصل، كنت أكتشف أن الاستمرار أصعب من البدء، لكنه أجمل.


✦ : العمل بصمتٍ طويل

بدأت أعمل في مشاريع صغيرة إلى جانب عملي الأساسي.
تعلمت أشياء جديدة: التصوير، التجارة الإلكترونية، تصميم الإعلانات.
كنت أعمل حتى منتصف الليل، وأستيقظ قبل الفجر.
أحيانًا أشعر أن جسدي لم يعد يحتمل، لكن داخلي كان يقول:

"اكمل… أنت لا تصنع مالًا فقط، أنت تصنع نفسك."

تعلمت أن النجاح ليس نتيجة الحظ، بل نتيجة الأيام التي لا يراك فيها أحد وأنت تعمل بصمت، تقاوم الكسل والشك والخوف.

بدأت أشعر أن حياتي تتغيّر فعلًا.
لم أعد أعيش يومي كروتين، بل كمهمة لها هدف.
كل تعب صار له معنى.


✦ : لحظة الانتصار

وجاء اليوم المنتظر.
بعد سنواتٍ من الادخار والعمل، وجدت نفسي في معرض السيارات، أضع يدي على مقود السيارة التي طالما حلمت بها.
لم تكن فاخرة ولا باهظة، لكنها كانت لي، بالكامل.
حين سلّمني البائع المفاتيح، شعرت أن العالم توقف لثوانٍ.
لم أكن أرى الحديد ولا اللون، كنت أرى قصة تعبٍ تحولت إلى إنجاز.

خرجت إلى الشارع وأنا أقود للمرة الأولى.
كانت المدينة كلها جديدة عليّ، رغم أني أعرفها منذ سنوات.
كانت الحرية شعورًا غريبًا، خفيفًا، ناعمًا، يشبه النسيم الذي دخل من نافذة السيارة.
قلت في نفسي:

"هذه ليست سيارة... هذا ثمرة إصراري، وهذه المفاتيح هي مفاتيح شخصيتي الجديدة."


✦ : ما بعد الوصول

الأحلام لا تنتهي عند التحقيق، بل تبدأ بعده.
بعد أن امتلكت السيارة، تغيرت نظرتي للحياة كلها.
لم أعد أرى النجاح هدفًا، بل عادة.
أصبحت أريد أن أتطور أكثر، أن أتعلم، أن أرفع سقف طموحي.
لأن الذي تعلم كيف يصنع شيئًا من لا شيء، يمكنه أن يصنع أي شيء.

بدأت ألاحظ أن السيارة التي كانت حلماً يومًا ما، صارت الآن وسيلة لحلمٍ أكبر.
صرْت أستخدمها لأزور أماكن جديدة، لأبدأ مشروعات جديدة، لأتواصل مع أشخاص فتحوا لي آفاقًا لم أكن أتخيلها.
كانت السيارة مجرد بداية لطريق أكبر مني.


✦ : الفلسفة التي تركها الطريق فيّ

حين أنظر اليوم إلى الوراء، لا أرى تعب السنوات الماضية كعقوبة، بل كبركة.
ذلك الطريق الطويل صنع مني إنسانًا مختلفًا:
صبورًا، منظّمًا، يعرف قيمة النعمة حين تأتي.

أدركت أن الحلم لا يُقاس بحجمه، بل بما يصنعه فيك من الداخل.
قد يكون الحلم بسيطًا في نظر الآخرين، لكن إن غيّرك من الداخل، فقد أنجزت ما هو أعظم من المال أو المظهر.

الحلم الحقيقي ليس أن تملك سيارة، بل أن تملك الطريق الذي وصلك إليها.


✦ النهاية: الطريق الذي لا ينتهي

اليوم، كل صباح وأنا أمسك بالمقود، لا أفكر في السيارة نفسها، بل في كل خطوة قادتني إليها:
في التعب، في الليالي الطويلة، في لحظات الشك، في نظرات السخرية، وفي الأمل الذي لم يمت.

أحيانًا، حين أقف على الإشارة، أنظر في المرآة وأرى نفسي القديمة — ذلك الذي كان يقف على الرصيف ينتظر الحافلة —
وأبتسم له.

أقول له بصوتٍ داخلي:

"أنت لم تفشل يومًا... كنت فقط في بداية الطريق الذي صنعني."


🛣️ النهاية – ولكن ليس نهاية الطريق.

تعليقات

المشاركات الشائعة