✦ حين صمتَ كل شيء وبدأتُ أسمع نفسي
🕊️ تعريف وبداية:
كلنا نمرّ بتلك اللحظات التي نفقد فيها الإيقاع،
حين تتكاثر الأصوات حولنا حتى لا نعود نسمع أنفسنا.
نحاول أن نبدو بخير، نعمل أكثر، نرضي الجميع، ونقنع أنفسنا أن هذا هو “النجاح”.
لكن شيئًا ما بداخلنا يختنق… حتى نصل إلى لحظة الصمت الكبرى،
اللحظة التي ينهار فيها كل شيء لنكتشف أننا لم نكن نعيش، بل نؤدي دورًا في حياةٍ لا تشبهنا.
هذه ليست قصة عن فشلٍ عابر، بل عن التحوّل الإنساني حين نصغي لأنفسنا للمرة الأولى.
إنها تدوينة عن التوازن الذي يولد من رحم الانكسار،
وعن السلام الذي لا يأتي من الخارج… بل من الهدوء الداخلي الذي نصنعه حين نتوقف عن الركض.
حين صمتَ كل شيء وبدأتُ أسمع نفسي
لم يكن الفشل سقوطًا مفاجئًا كما تخيّلت دائمًا، لم يكن حادثًا واحدًا يمكنني الإشارة إليه والقول: “هنا بدأت النهاية”.
بل كان سلسلة من التفاصيل الصغيرة التي تجاهلتها يومًا بعد يوم…
ذلك الشعور بالثقل كل صباح، التنهيدة الطويلة قبل الذهاب إلى العمل، الابتسامة التي لا تصل إلى القلب.
كنت أعيش على طريقتي الخاصة في الهروب: عمل كثير، علاقات كثيرة، وضجيج لا ينتهي حتى لا أسمع صوتي الداخلي.
في تلك المرحلة، كنت أظن أن النجاح يعني أن أبدو بخير أمام الناس، أن أملك ما يملكون، أن أبدو “صامدًا” مهما حدث.
لكن الحقيقة أنني كنت أتآكل من الداخل، بصمتٍ لا يراه أحد.
كنت أعود إلى البيت مرهقًا، أجلس أمام الحائط صامتًا، كأن شيئًا فيّ يتفتّت ببطء.
كل ما حولي كان يتحرك بسرعة، وأنا كنت جامدًا في مكاني، أرتدي قناع “الناجح المشغول” بينما قلبي غارق في الفراغ.
في العمل، كنت أؤدي أكثر مما يُطلب مني، لا لأنني أحب ما أفعل، بل لأنني خفت أن ينساني الناس إذا لم أكن الأفضل.
كنت أعمل لأثبت وجودي، لا لأعيش شغفي.
وحين بدأت أخطئ، لم يغفر لي أحد، لأنهم لم يتعودوا أن يروني ضعيفًا.
حتى أصدقائي، أولئك الذين كنت أستمع لشكواهم بصبر، لم يحتملوا صمتي حين احتجت أن يسمعني أحد.
كنت محاطًا بالناس، لكني أكثر وحدةً من أي وقت مضى.
وذات مساءٍ، بعد يومٍ خانقٍ من الاجتماعات والوجوه المتعبة، توقفت فجأة عن كل شيء.
خرجت من المكتب دون أن أنظر خلفي. سرت في الشارع بلا وجهة.
المدينة كانت صاخبة كعادتها، لكن داخلي كان هادئًا على نحوٍ غريب.
جلست على مقعد خشبي في ساحة صغيرة، ورفعت رأسي نحو السماء.
كان الليل صافياً على غير عادته، ونسمة خفيفة تمرّ بين المارة.
لأول مرة منذ زمن، لم أفتح هاتفي. لم أراجع المهام، لم أرسل رسالة. فقط جلست.
وحين صمتَ كل شيء من حولي… سمعت نفسي.
صوتي الداخلي كان خافتًا، مبحوحًا كمن نسي الكلام.
قال لي شيئًا بسيطًا جدًا، لكنه كان كصفعة على الوعي:
“أنت تتظاهر بالحياة أكثر مما تعيشها.”
تذكّرت وقتها كم من الأحلام تخلّيت عنها لأن أحدهم سخر منها،
كم مرة وافقت على ما لا أريده حتى لا أُتهم بالأنانية،
كم مرة ابتسمت وأنا أختنق لأنني كنت أظن اللطف واجبًا حتى على حساب نفسي.
كل هذا الجهد لأكون مقبولًا، محبوبًا، مفهومًا…
لكن ماذا عني؟ من الذي سألني آخر مرة: ماذا تريد حقًا؟
عدت إلى البيت تلك الليلة، وجلست أمام المرآة طويلاً.
رأيت ملامح لم أنتبه إليها منذ زمن: تعب، نعم، لكن أيضًا رغبة في البدء من جديد.
لم أعد أريد أن أكون الشخص الذي يركض خلف التوقعات.
كنت أريد أن أعيش ببساطة، بصدق، حتى لو لم يفهمني أحد.
منذ ذلك اليوم، بدأت رحلتي نحو التوازن، لكنها لم تكن سهلة أبدًا.
كانت مليئة بالفوضى والتردد والخوف.
في البداية، فقدت الكثير: أشخاصًا، فرصًا، وحتى مكانتي في بعض العيون.
حين تغيّرت، لم يعجبهم الأمر.
بعضهم قال إنني أصبحت “غامضًا”، وآخرون وصفوني بالبارد أو المغرور.
لكن الحقيقة أنني فقط توقفت عن التبرير.
تعلمت أن أقول “لا” دون خوف، أن أعتذر لنفسي حين أرهقها، أن أبتعد حين لا أُقدّر.
بدأت أختار صمتي بدل النقاش الذي لا معنى له، والصدق بدل المجاملة.
وللمرة الأولى، شعرت أنني أعيش لنفسي لا لأدوّر حول الآخرين.
في العمل، لم أعد أبحث عن التصفيق، بل عن المعنى.
كنت أقوم بمهامي بهدوء، لا ليثنوا علي، بل لأنني أحب أن أؤدي ما بيدي بإتقان.
ولمّا قلّت الضغوط، بدأت ألاحظ التفاصيل الصغيرة التي كنت أغفلها: صوت زميل يضحك من قلبه، كوب القهوة في الصباح، لحظة الصمت قبل أن يبدأ يوم جديد.
الحياة لم تتغير، أنا الذي بدأت أراها بعيون مختلفة.
أما العلاقات… فتعلمت فيها الدرس الأصعب:
أن تحب دون أن تُلغى، أن تهتم دون أن تُهمل نفسك، أن تكون صادقًا حتى وإن خذلك الآخرون.
لم أعد أبحث عن الكمال، بل عن الاتزان.
لم أعد أطلب أن يفهمني الجميع، يكفيني أن أكون صادقًا مع نفسي.
وبينما كنت أتعلم الصبر والهدوء، بدأ شيء جميل ينمو داخلي:
سلام صغير، لكنه حقيقي.
لم يكن سلامًا من نوع “كل شيء بخير”، بل سلام الوعي…
أن تعرف أنك لن تملك كل الإجابات، ولن تُرضي كل الناس، ومع ذلك أنت بخير لأنك اخترت أن تكون على حقيقتك.
اليوم، بعد كل تلك الرحلة، حين أنظر إلى الماضي، لا أراه فشلاً كما كنت أظن.
بل كان دعوة صامتة لأن أعود إلى نفسي.
لو لم أنهَر في تلك المرحلة، لما كنت سمعت ذلك الصوت الداخلي الذي غيّر مساري.
النجاح بالنسبة لي لم يعد يعني الصعود المستمر، بل القدرة على النهوض بعد السقوط دون أن تفقد نفسك في الطريق.
التوازن لم يعد يعني حياة مثالية، بل وعيًا يجعلني أعيش اللحظة دون خوفٍ مما فات أو مما سيأتي.
الآن، حين يسألني أحدهم: “كيف وجدت السلام؟”
أبتسم وأقول:
“حين صمتَ كل شيء… وبدأتُ أسمع نفسي.”
ما بعد الهدوء
لم تكن العودة إلى الحياة بعد الهدوء سهلة كما ظننت.
كنت أظن أن السلام الداخلي سيجعل كل شيء حولي متناغمًا فجأة، لكن الحقيقة أن العالم لم يتغير، الذي تغيّر هو طريقتي في النظر إليه.
في العمل، لاحظت أنني لم أعد أركض خلف المهام كما كنت.
كنت أتعامل مع كل يوم على أنه مساحة للتعلّم لا ساحة صراع.
لم أعد أشارك في أحاديث المنافسة الصاخبة ولا أُقارن إنجازي بإنجاز الآخرين.
كنت أعمل بهدوءٍ غريب، كأنني أزرع بذورًا في أرضي الخاصة، وأتركها تنمو على مهلها دون ضجيج.
حتى في العلاقات، صار كل شيء مختلفًا.
لم أعد أبحث عن الناس لأملأ فراغي، بل أبحث عن الذين يُشبهون سكينتي.
صرت أقدّر الصمت المشترك أكثر من الحوارات الطويلة، وأحبّ الصدق حتى لو كان مؤلمًا أكثر من الكلمات المزيّنة.
بعض العلاقات رحلت بهدوء، وبعضها ازدهر على مهل… لكني لم أعد أتمسّك بما يؤذيني تحت اسم “الخوف من الفقد”.
تعلمت أن الفقد أحيانًا ليس نهاية، بل بداية لتنفسٍ جديد.
وفي ذلك الفقد، وجدت نفسي من جديد.
✨ تعليق الكاتب:
كتبتُ هذه القصة لأنني أردت أن أتذكّر — قبل أن أُذكّر غيري — أن التوازن لا يُولد من الراحة، بل من الوعي.
أن أقسى اللحظات في الحياة ليست نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية.
نحتاج أحيانًا أن نصمت لنفهم، أن نبتعد لنقترب من ذاتنا، أن ننهار قليلًا لنقف من جديد بطريقة مختلفة.
فإذا وجدت نفسك في هذه السطور،
فاعلم أنك لست وحدك.
كلنا نحتاج أن نصمت يومًا…
لنسمع أنفسنا، ونبدأ من جديد.



تعليقات
إرسال تعليق