وطن بين الحقائب
✈️ حين يصبح الوطن ذاكرة نحملها معنا أينما ذهبنا...
قبل القراءة:
ليس كل من غادر وطنه غريبًا،
وليس كل من بقي قريبًا يشعر بالانتماء.
هذه القصة ليست عن السفر فقط، بل عن تلك المسافة الخفية بين الإنسان ونفسه،
حين يكتشف أن الغربة قد تبدأ من الداخل،
وأن العودة لا تعني دائمًا الوصول.
البداية✓
لم يكن المطار مزدحمًا تلك الليلة، ومع ذلك كان الضجيج يملأ قلبه أكثر من المكان.
وقف “سليم” يحمل حقيبته الصغيرة، يتأمل اللافتات المضيئة بلغة لم يتقنها بعد، ويتساءل في نفسه:
هل الوطن شيء نحمله في الجيب، أم نتركه هناك مع المفاتيح القديمة وصور الطفولة؟
كان يشعر أن كل خطوة نحو الطائرة تُبعِده عن شيءٍ لا يُسمّى.
لم يكن هروبًا ولا طموحًا خالصًا، بل مزيجًا من الحاجة والقدر.
قالت له أمه وهي تودّعه:
“سافر يا ولدي، لكن لا تنسَ أن الطريق لا يُحبّ من ينسى العودة.”
فابتسم دون أن يجيب، لأنه لم يكن واثقًا أنه سيعود كما هو.
في المدينة البعيدة، بدا كل شيء منظمًا أكثر من اللازم، حتى مشاعر الناس كانت تسير في صفوف مرتبة.
استأجر غرفة صغيرة في حيّ رمادي، يعمل نهارًا ويصمت ليلًا.
كان يسمع أصوات المارة تحت نافذته كأنها تمرّ داخل رأسه، لا في الشارع.
وفي ليالي الوحدة الطويلة، كان يفتح حقيبته القديمة ويقلب فيها ما تبقى من ماضيه:
قصاصة ورق كتب عليها "لا تنسَ نفسك"، مفتاح لبيت لم يعد له باب، وعلبة صغيرة فيها تراب من حديقة البيت.
ذات مساءٍ بارد، جلس أمام النافذة ينظر إلى المطر المتساقط على زجاج غرفته،
وقال بصوتٍ خافت كأنه يخاطب روحه:
“تعلّمت لغتهم، لكني نسيت صوتي.”
مرت السنوات، وصار يتقن لغة الغربة أكثر من لغته الأولى.
صار يعرف الشوارع والأسماء والوجوه الجديدة، لكنه فقد الإحساس بالزمن.
أحيانًا كان يشعر أنه يعيش مؤقتًا في كل شيء، حتى في نفسه.
وحين يكتب رسالة لأمه، يتردّد:
هل يكتبها بالعربية التي تبهت في ذاكرته؟ أم باللغة الجديدة التي لم تلامس قلبه بعد؟
في إحدى العطلات، قرر أن يعود.
ركب الطائرة وفي صدره قلق غريب، يشبه خوف طفلٍ من بيتٍ لم يعد يعرفه.
حين وصل، اكتشف أن كل شيء تغيّر:
الأصدقاء رحلوا، الأزقة صارت أضيق، والوجوه أكثر صمتًا.
حتى بيته القديم بدا كأنه يتجنبه، كأن جدرانه تعرف أنه لم يعد أحد سكانها.
دخل إلى المقهى الذي كان يجلس فيه مع رفاقه،
فلم يجدهم، بل وجد جيلًا جديدًا لا يعرف اسمه ولا صوته.
جلس في الزاوية نفسها، طلب قهوته المعتادة، وتذكر أنه لم يعد يعرف طعمها كما كان.
اقتربت منه النادلة بابتسامة، وسألته إن كان ينتظر أحدًا،
فقال مبتسمًا:
“كنت أنتظر نفسي… ربما تأخّرت في الطريق.”
في المساء، عاد إلى بيت أمه.
احتضنته بقوة، ومرّت بينهما لحظة صمتٍ ثقيل،
قالت وهي تلمسه كأنها تتأكد من وجوده:
“كبرت يا سليم… صرت غريبًا جميلاً.”
ضحك بخفة، ثم جلس قربها، ينظر إلى صورته القديمة على الجدار.
في تلك الصورة، كان يحمل حقيبة أيضًا —
لكنها كانت أصغر، وكان قلبه أكبر.
تلك الليلة، جلس يكتب في دفتره المهترئ:
“الغربة ليست بين مطارين، بل بين زمنين:
زمنٍ كنت أعرف فيه نفسي، وزمنٍ صرت أبحث عنها.”
ثم أغلق الدفتر ووضعه داخل الحقيبة، كأنه يخبئ قلبه بين طيات الملابس.
نام أخيرًا، وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه، كأن الحنين قرر أن يرتاح هو أيضًا.
تأمل أخير:
الغربة لا تقتلك مرة واحدة، بل على دفعات صغيرة:
حين لا تفهم نكتةً قيلت بلغتك القديمة،
حين تكتب رسالة ولا تجد كلماتٍ مناسبة،
حين تعود إلى وطنك فلا تجد نفسك فيه.
لكنها أيضًا تُنضجك، تجعلك ترى أن الوطن ليس فقط أرضًا،
بل هو إحساسٌ بالانتماء،
وربما كل ما نحاول فعله في حياتنا هو أن نجد ذلك الإحساس —
ولو كان داخل حقيبةٍ صغيرة نسافر بها من مكانٍ إلى آخر.
ختام القصة:
في النهاية، لسنا نغترب لأننا نرحل،
بل لأن شيئًا فينا يظلّ ينتظر مكانًا يشبهنا.
فالوطن ليس خريطةً نعود إليها،
بل قلبٌ إذا ذكرناه… شعرنا أننا ما زلنا أحياء.



تعليقات
إرسال تعليق