“المدى الذي لا يُرى”

 


تعريف✓

المدى الذي لا يُرى مساحة تتجاوز حدود البصر، امتدادٌ صامت يختبئ خلف آخر ما يمكن للعين أن تلتقطه. هناك حيث تذوب الخطوط بين الحقيقة والاحتمال، يتوسع الفراغ مثل تنهد طويل للكون. لا ألوان تحكمه، ولا مسافات يسهل قياسها، فقط اتساع يلتهم كل محاولة للفهم.

في ذلك المدى تتوارى الأشياء قبل أن تُسمّى، وتولد المعاني قبل أن تُنطق. الضوء نفسه يتردد في الدخول، كأنه يخشى أن يفقد جوهره عند اتساعٍ لا نهاية له. الصمت هناك ليس غياب صوت، بل حضور عميق لشيء لا يُفسّر. الزمن يتفكك ويتحوّل، لا بداية ولا نهاية تحكمه، فقط تدفق دائم يشبه حلمًا لم يستيقظ بعد.

المدى الذي لا يُرى ليس مكانًا، بل احتمال. عالَم يراقب من بعيد، ينتظر لحظة يتم فيها كشف الستار عن ما يختبئ في أحشائه. كل خطوة نحوه اكتشاف، وكل اقتراب منه اعتراف بأن ما نراه ليس سوى جزء صغير من الحقيقة الكبرى.

البداية✓


في قرية صغيرة تتدلّى على أطراف مدينة رياضية كبرى، عاش فتى يُدعى سامي، عاشق لكرة القدم حدَّ الجنون. لم تكن الكرة بالنسبة له لعبة فقط… بل كانت بوصلته في الحياة.
لكن سامي كان يواجه شيئًا لا يواجهه باقي اللاعبين… عينه اليسرى كانت لا ترى شيئًا منذ حادثٍ أصابه صغيرًا.

كل من حوله كان يظن أن حلمه صعب، بعيد… وربما مستحيل.
مدرب المدرسة قال له يومًا:

“الملعب يحتاج عينين يا سامي… لا أحلام.”

كانت تلك الكلمات كسهمٍ أصاب قلبه، لكنه لم يسقط… بل ازداد إصرارًا أن يكون شيئًا لا يتوقعه أحد.


البداية المُرة

كل مساء، كان سامي يخرج إلى ساحة مهجورة خلف منزله، يلعب هناك وحده.
الكرة كانت تتدحرج يمينًا، وهو يركض خلفها حتى لو غابت عن مجال رؤيته.
كان يقول لنفسه:

“عين واحدة… تكفي لرؤية الحلم.”

وذات ليلة عاصفة، ظهر رجل غريب عند السور الحديدي.
كان يرتدي معطفًا داكنًا، وعصا خشبية يستند إليها.
راقب سامي طويلاً قبل أن يقول:

— "أراك تلعب كأنك تُقاتل… ما الذي يدفعك؟"

رفع سامي رأسه بثقة:
— "أريد أن أصبح لاعبًا عظيمًا… رغم كل شيء."

ابتسم الرجل بخفوت:
— "أنا المدرب رائد… كنت أدرب فرقًا محترفة من قبل. لكني توقفت…"
ثم أضاف:
— "أما أنت… فأنت لست لاعبًا عاديًا، أنت مصمم على رؤية ما وراء النظر."

ومنذ تلك الليلة… تغيّر كل شيء.


تدريب المستحيل

بدأ رائد يُدرّب سامي على التركيز السمعي بدل البصري، على الإحساس بالمساحة بدل الرؤية.
جعله يركض معصوب العينين، يسمع صفير الريح، خطوات خصمه، ارتداد الكرة.

كان سامي يسقط كثيرًا… لكنه كان يقف أكثر.
وفي إحدى السقطات المؤلمة قال له المدرب:

“الأبطال الحقيقيون… يُصنعون من الألم.”

تسللت تلك الجملة إلى داخله كضوء يبدأ رحلة الشمس عند الفجر.


الامتحان الأكبر

أعلن نادي المدينة عن اختبارات اختيار الناشئين.
آلاف اللاعبين، مدربون كبار، وسائل إعلام… وكانت فرصة العمر.

وقف سامي في الصف، البعض يضحك، والبعض يتهامس:
— "أهذا هو الفتى أحادي العين؟"
— "هل جاء ليكون مهرّجنا؟"

لكن سامي لم يسمع سوى صوت داخلي واحد:

“امضِ يا سامي… لقد وصلت.”

بدأ الاختبار…
ركض سامي بخفة الريح
كان يسمع حركة اللاعبين
يشتمّ اتجاه الأرض المبتلّة
ويُسدد الكرة بدقة كأنه يرى بأكثر من عينين

المدربون أصيبوا بالذهول…

لكن الاختبار الأخير كان الأصعب: ركلة جزاء تحدد القبول!
الأصوات تعالت، الجمهور يصرخ، الضغط مثل جبل فوق صدره.

أغمض سامي عينه الوحيدة…
وتخيّل حلمه…
وتخيّل كل من قال له “مستحيل”…
ثم سدد بكل ما يملك من قوة وإيمان…

الكرة اخترقت الهواء
وصدمت الشباك بصفعةٍ قوية
هدف!
انفجر الملعب بالتصفيق!


النتيجة…

اقترب المدير الفني وقال بصوت مرتفع يسمعه الجميع:

“هذا الفتى… يرى ما لا نستطيع رؤيته نحن.”

وتم إعلان قبول سامي ضمن الفريق الرسمي للمدينة.

الدموع انهمرت من عينه الوحيدة…
أما المدرب رائد فابتسم بصمت، وخرج من الملعب في هدوء وكأنه جاء لإنجاز مهمة… ثم الرحيل.


الخاتمة

كبر سامي… وأصبح اسمه رمزًا لكل من يُحارب الظروف.
صار الأطفال يهتفون عند تسجيلهم هدفًا صعبًا:

“فعلتها مثل سامي!”

لقد أثبت أن الأحلام لا تحتاج عينين…
بل تحتاج قلبًا يرى… ومدى لا يُرى

تعليقات

المشاركات الشائعة