الحديد الذي صقل قلبي
البدايات حين كانت الحياة ثقيلة بلا أوزان
لم أكن أبحث عن بطولة ولا عن تصفيقٍ من أحد، كنت فقط أبحث عن طريقة أستعيد بها نفسي.
كنت أعيش في مدينة صغيرة تسرق أحلام الناس بهدوء.
العمل يستهلك الوقت، والظروف تستهلك الحلم، والوجوه تتكرر حتى يفقد المرء ملامحه الخاصة.
كنت نحيل الجسد، متعب الروح، أعيش بين واجبات الحياة دون هدفٍ واضح.
لكن في داخلي، شيء صغير كان يرفض الاستسلام، صوت خافت يقول لي:
"لا يمكن أن تكون وُجدت فقط لتكرر الأيام."
وذات مساء، مررت أمام قاعة قديمة لكمال الأجسام في أطراف الحي.
أصوات الحديد تتصادم، والوجوه متعبة لكنها حيّة، والجو مشبع برائحة العرق والإصرار.
وقفت لحظة أراقب، ثم شعرت أن هذا المكان يناديني بطريقة غامضة.
دخلت مترددًا، دفعت ما تبقّى من المال في جيبي، وبدأت.
في الأيام الأولى، كان الألم لا يُحتمل.
الأوزان بدت أثقل من أحزاني، وذراعاي ترتجفان من أول تمرين.
لكني لم أهرب.
كل وجعٍ كان يهمس لي بأن الألم ليس نهاية، بل بداية جديدة.
كنت أعود كل يوم، جسدي ينهار أحيانًا، لكن روحي كانت تبني نفسها ببطءٍ جميل.
حين دخل الحب بين الأوزان
مع مرور الوقت، بدأ النادي يصبح عالمي.
الحديد صار صديقي، والمرآة لم تعد تخيفني.
في ذلك الجو المشبع بالعزم، دخلت في حياتي روحٌ أخرى، هادئة كنسمة، لكنها غيّرت اتجاه الريح.
كان وجودها بسيطًا، لكنها رأت فيّ ما لم أره أنا في نفسي.
لم تقل لي الكثير، فقط قالت مرة:
"القوة ليست في أن ترفع الأثقال، بل في أن تتحمل ثقل الأيام بابتسامة."
ومن يومها تغيّر كل شيء.
صرت أتمرن لأكون أفضل، لا لأبدو أفضل.
صرت أرى في الحديد رمزًا للحياة نفسها:
كلما واجهت الألم أكثر، أصبحت أقرب إلى حقيقتك.
كانت نظراتها تكفيني لأستعيد طاقتي بعد يومٍ طويل، وكأنها كانت تؤمن بي أكثر مما أفعل أنا.
لم يكن الحب في قصتي وعدًا بالراحة، بل وعدًا بالمواصلة.
ومع كل تمرين، كنت أشعر أني أتحرر من نسختي القديمة — تلك النسخة الضعيفة التي كانت تخاف من الحياة أكثر من الأوزان.
السقوط الذي أعادني إلى البداية
لكن الحياة لا تترك أحدًا بلا امتحان.
جاءت الضربة حين لم أكن مستعدًا.
خسرت أحد أقرب الناس إلى قلبي، وتراجعت أحوال العائلة، وتعبت نفسي قبل جسدي.
توقفت عن التدريب، عن الحلم، عن كل شيء.
كنت أرى الأوزان ولا أملك الشجاعة للمسّ بها.
حتى الحب ابتعد بصمته، ليس لأنه خذلني، بل لأنه لم يعد قادرًا على إنقاذي من نفسي.
شهور طويلة عشتها في الظل.
كنت أرى جسدي يضعف، ومعه ثقتي.
لكن شيئًا داخلي لم يمت تمامًا.
في أحد الأيام، وجدت نفسي واقفًا أمام المرآة، نظرت إلى عينيّ، وقلت بهدوء:
"كل هذا الألم لن يكون بلا معنى."
عدت إلى النادي.
الأوزان بدت أثقل من الماضي، لكني رفعتها — لا بجسدي، بل بعزيمتي التي عادت من الرماد.
كل عَرقٍ يسقط كان إعلان ولادةٍ جديدة.
لم أعد أبحث عن شكلٍ خارجي، بل عن توازنٍ داخلي.
بدأت أفهم أن القوة لا تعني أن لا تسقط، بل أن تنهض كل مرةٍ بطريقة أذكى وأقوى من قبل.
عندما يصبح الحديد مرآة الروح
السنوات مرّت، والوجوه تغيّرت، لكن شيئًا واحدًا بقي ثابتًا: تلك العلاقة الغامضة بيني وبين الحديد.
كلما أمسكت به، شعرت أنه يعيدني إلى نفسي.
أصبح الحديد مرآة روحي.
يريني أين أقف، وكم من الألم ما زلت أقدر على احتماله.
شاركت في بطولات صغيرة، لم أفز دائمًا، لكني لم أعد أبحث عن الميداليات.
كنت أبحث عن السلام، عن ذلك الشعور الخفي بأنك أقوى من أمسك بك البارحة.
اليوم، حين أرفع الأوزان، لا أرى جسدًا يزداد حجمًا، بل إنسانًا يزداد نضجًا.
أصبحت أفهم أن كمال الأجسام ليس مجرد رياضة، بل فلسفة:
أن تبني نفسك من الداخل والخارج في آنٍ واحد،
أن تتعامل مع الألم كأداة للنمو،
وأن تدرك أن الحب — مثل الحديد — لا يلين إلا بالصبر.
ختام . ما علّمتني الأوزان
من رحلتي تلك، تعلّمت أن كل إنسان يحمل "حديده" الخاص.
قد يكون مرضًا، أو خسارة، أو خيبة، أو خوفًا من الفشل.
لكن ما يصنع الفرق هو كيف نحمل ذلك الحديد:
هل نتهرّب منه، أم نحمله كل يومٍ حتى نصبح أقوى منه؟
تعلمت أن العضلات قد تُبنى في النادي،
لكن القوة الحقيقية تُبنى في القلب — في المرات التي تنهض فيها وحيدًا،
في اللحظات التي تواصل فيها رغم أن كل شيء فيك يريد الاستسلام.
كمال الأجسام بالنسبة لي لم يعد رياضة،
بل طريقة عيشٍ تذكّرني أن الحياة — مثل الحديد — لا ترحم، لكنها تكافئ من يصرّ على المحاولة.
وربما هذا هو المعنى الحقيقي للبطولة:
أن تصنع من ضعفك طريقًا إلى النور،
وأن تجعل من الألم سببًا لتبتسم،
لأن الحديد الذي صقل جسدي... هو نفسه الذي صقل قلبي.






تعليقات
إرسال تعليق